وتكملة لذلك يقول الشيخ رحمه الله:
[والشارع صلوات الله عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط] أي: لم يجعل هذا الوعد حاصلاً بمجرد قول اللسان. ثم قال:
[فإن هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار]، قال الله تبارك وتعالى: ((
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ))[النساء:145]، وهذا لا يقتضي أنهم تحت الجاحدين الكافرين، وإنما المقصود أنهم معهم، إذ إن الله تعالى جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعاً، وليس المقصود بالضرورة أن يكون المنافقون في الدرك الأسفل، أي: أشد عذاباً من بقية الكفار، وإنما المقصود أنهم في أشد دركات العذاب كما لو كانوا كفاراً خلصاً بألسنتهم؛ لأن قلوبهم لم تؤمن، ولذا فالمقصود أنه لو كان الأمر بمجرد قول: لا إله إلا الله لما كان هذا حال المنافقين، فهم يقولونها باللسان، لكن لما كان هذا قولاً باللسان فقط وما في القلوب يكذبه، ولم يخلصوا دينهم لله عز وجل، فإن ذلك لم ينفعهم، فكان هذا حالهم وجزاؤهم ومصيرهم. يقول:
[فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب]، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )، فالأساس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (
التقوى هاهنا، التقوى هاهنا )، أي:
الأساس هو عمل القلب وإيمانه، وبهذا تفوق الصحابة رضوان الله عليهم وسادوا على كل الأمة بما وقر في قلوبهم من حقائق الإيمان، وليس بمجرد الأعمال الظاهرة؛ فإنهم كانوا يصلون الصلاة كما يصلي التابعون، بل ربما كان بعض التابعين يقوم من الليل أكثر من بعضهم، وربما فتح بعض التابعين من البلاد أكثر مما فتح بعض الصحابة وهكذا، فلو أن الأمر بالمقادير الظاهرة فقط لوجدنا أن كثيراً من التابعين ومن بعدهم لديهم كمية من العمل أكثر من بعض الصحابة، لكن لأن الأمر بأعمال القلوب كان درجة الصحابة أفضل، بل نفس الصحابة رضي الله عنهم يتفاضلون بذلك، فمن أنفق منهم قبل الفتح وجاهد أعظم درجة، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (
لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاطب صحابة متأخرين في حق صحابة سابقين متقدمين، أما من بعدهم فهم أولى وأحق بلا ريب، أي: الناس من بعدهم لا يجوز أن يسبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أعظم وهو أولى وآكد في حقهم، لكن المقصود تفاوت أولئك كما بين الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد.قال المصنف رحمه الله:
[وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها].يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (
إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله )، بعض الناس يقول: حرم النار التي هي نار الكفار، أما نار العصاة فلم يحرمها، ويقول بعضهم: معنى ذلك مثال حديث: (
من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، أي دخلها بعد أن يعذب، ويخرجون منها؛ لأنهم وجدوا أنه لا يمكن أن يكون مجرد قول: لا إله إلا الله باللسان كافياً في أن يترتب هذا الأجر العظيم عليه، فلا بد أن نؤول ذلك، لتعارض فهمهم لهذه الأحاديث، وعلى هذا الفهم يحمل ما ثبت وصح في آيات وأحاديث الوعيد، كقوله تعالى: ((
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10]، فكيف يكون هذا جزاؤه وعقوبته وهو يقول: لا إله إلا الله؟ إذاً نقول: إن النار المحرمة هي نار الكافر، أو أنه يعذب ثم يخرج، فهذه بعض التأويلات، ورغم أنه فرق بين نار الكفار ونار العصاة، وفرق بين من يدخل النار ابتداءً ثم يخرج منها، وبين من لا يدخلها مطلقاً، لكن مع ذلك فالصحيح أن هذه الأحاديث لها أهلها، وهم من كانت هذه حاله ودرجته، ووجود الحالات الأخرى لا ينفي هذه الحالة، بل هي الأساس، أما تلك فإنها تؤخذ وتفهم من الجمع بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، لكن هذه الأحاديث لها أهلها، ولها حالات خاصة معينة، ولذلك حديث البطاقة قلنا فيه: ليس كل واحد يمكن أن تغلب بطاقته وترجح بالسجلات، وإنما هذه حالة خاصة، وليس المقصود بالضرورة أن يكون رجلاً واحداً، لكن المقصود أن هذه الحالة على خلاف الأصل، إذ الأصل في أهل التوحيد قلة الذنوب والمعاصي؛ لأن الذي حقق شهادة أن لا إله إلا الله يفترض أن يكون أبعد الناس عن المعاصي والذنوب، فلهذا ما يحتاج أن يكون لديه بطاقة، وإنما يكون لديه سجلات معها شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة والزكاة والإحسان والصدقة والبر وأعمال الخير العظيمة الأخرى، لكن الحالة التي هي خلاف الأصل والمعهود أن رجلاً يحقق التوحيد خالصاً في قلبه لله عز وجل، ومع ذلك ربما يكون أخذ من مال هذا، واعتدى على هذا، وفرط في ذلك الذنب، وارتكب هذه الموبقة، فهذه الحالة -التي هي على خلاف الأصل- لما يأتي صاحبها ويرى هذه السجلات ييأس فيقال له: إنك لا تظلم اليوم شيئاً، إن لدينا بطاقة لك، فيقول: يا رب! وما تغني البطاقة مع هذه السجلات؟ فهو يرى أنه ليس له شيء ولا يستحق مكافأة، ولكن لا يثقل مع اسم الله شيء سبحانه وتعالى؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله مكتوبة في هذه البطاقة، فترجح بتلك السجلات، فيفاجأ الرجل بذلك، فهذه حالة بخلاف الأصل والمعهود، وهو خلاف ما يمكن أن يتوقع أن بطاقة ترجح بهذا، إذاً هذا دليل على أن هذه الأحاديث وهذه النصوص هي في حالات خاصة، وليست بالضرورة أن تجعل عامة في كل من قال: لا إله إلا الله، أو يقال: لا بد أن تؤول.يقول الشارح رحمه الله:
[ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار]، أي: أن كل موحد له بطاقة، والذي ليس له بطاقة ليس من أهل التوحيد والإيمان مطلقاً، ولكن كثيراً منهم يدخل النار وما استطاعت بطاقته أن تثقل فترجح بتلك السجلات. ثم قال رحمه الله:
[وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته وهو بتلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت]، فهذا إنسان من صدق توبته -وتوجهه إلى قرية الخير- وتقواه وشدة خوفه أن يرجع إلى ما كان عليه في قرية السوء والمعاصي والذنوب، حتى وهو يعالج سكرات الموت ينوء بصدره ويحركه ويزحف ولو قليلاً إلى قرية التوبة والرحمة والأمن والإيمان، ولهذا حكم الله سبحانه وتعالى بأن يكون لملائكة الرحمة، فهي التي تتولاه، مع أن ملائكة العذاب قالت: قتل مائة نفس، وإلى الآن ما عمل شيئاً يكافئ تلك الجرائم، فهو قتل في الأصل تسعة وتسعين وأكمل المائة بالمفتي الجاهل، إذ إنه قال له: لا أجد لك توبة، فقال ما دام ليس لي توبة، إذاً فما الفرق بين المائة والألف، فأكمل به المائة وانصرف، وهكذا الإنسان دائماً لا يفتي إلا بعلم، لكن لما وجد العالم العابد أرشده إلى أرض التوبة، وهذا من أفضل أنواع الإرشاد وأساليب الدعوة، إذ إنك لا تكتفي أن تقول له: هذا حرام، بل تدله على طريق ينجو به، فقال له: اذهب إلى تلك القرية، ووصفها له، أما تلك فهي قرية سوء، فأدركه الموت وهو في هذه الحال، فلما علم الله تعالى هذه الحقائق في قلبه؛ لأنه ليس مجرد مسافر عابر، بل ذاهب برغبة وصدق وإخلاص لله عز وجل، وهذا مثل قوله تعالى: ((
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ))[النساء:100] إنها حكمة الله عز وجل، فلو كان الإنسان لا ينال الأجر إلا بأن يعمل ويحقق العمل لكان شيئاً صعباً، لكن على الإنسان أن يبذل الجهد، فخرج من بيته ناوياً الهجرة، ولو أدركه الموت ولم يصل إلى المهاجر إليه فقد وقع أجره على الله، وهذا مثل حديث الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم
تبوك : (
إن بـالمدينة أقواماً، ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ) ومن أقام على عذر كمن راح، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين. قال:
[وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان -بغي بني إسرائيل- حين نزعت موقها وسقت الكلب من الركية، فغفر لها]، سبحان الله هذه المرأة عجيب أمرها! وتعلمون ما توعد الله تبارك وتعالى به أهل الزنا والعياذ بالله: ((
وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ))[الفرقان:68] فالزنا: ((
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ))[الإسراء:32] فهذه امرأة ترتكب هذه الفاحشة، وهي تعلم أن الله حرمها، غفر لها بأمر لا يخطر على بال كثير من الناس، لكن اقترنت به حقائق إيمانية قلبية جعلته يكفر هذه الذنوب وهذه الموبقات، لأن المحسن إليه كان كلباً، فليس هناك احتمال للرياء؛ لأن الفقير من الناس -ولو كان من يكون، ما دام من البشر- يمكن أن يذهب فيقول للناس: جزى الله فلاناً كل خير، فقد أعطاني وتصدق علي، لكن من يحسن إلى من لا يتكلم ولا ينطق فهذا لا شك أنه يكون أبعد عن الرياء، ثم إنها نظرت إليه ووجدته في هذه الحالة يلهث من العطش، فلم تجد ما تحمل له الماء فيه، فنزعت موقها، أي خفها، ونزلت إلى البئر، ولما ملأته صعدت ووضعت الموق في فمها، ولذلك فمن الصعب على الإنسان أن يضع الخف في الفم، لكنها في ذلك الوقت تريد عملاً خالصاً لله، فهي ما نظرت وقالت: من أجل كلب أضع الموق في فمي! لا، فاقترن بهذا العمل وهو عمل من الناحية البدنية قليل محدود، اقترن به من الناحية القلبية إخلاص وصدق في المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، وبعد عن احتمال رياء أو سمعة، ثم سقته فشكر الله لها ذلك، وغفر لها الموبقات والفواحش التي توعد عليها بما توعد.